اليد الثالثة...بقلم : بلال فضل
(لماذا
تؤمن بنظرية المؤامرة؟، لماذا تصر على إقحام إسرائيل فى ملف الفتنة
الطائفية؟، لماذا نحمل إسرائيل مسؤولية أخطائنا وكوارثنا؟، أسئلة تلقيتها
خلال اليومين الماضيين، وللأسف الشديد لم أجد إجابة أفضل عنها من هذه
السطور التى كتبتها قبل أسابيع من أحداث كنيسة القديسين، ولعلك تجد فيها
إجابات شافية على كل ما لديك من أسئلة آملا ألا تخلو الإعادة من إفادة).
ربما
ترانى قريبا من هول ما بى، أجرى فى الشوارع وأنا أحمل فى عنقى فرخا كبيرا
من الورق أُلصِقَت عليه مجموعة منتقاة بفظاعة من أبشع صور الحرب الأهلية فى
لبنان، صور بها أحياء مهجورة وبيوت ميتة وشوارع يغطيها دخان القنابل وجثث
منتفخة ملقاة فى الشوارع لأطفال ونساء وشيوخ وشباب كانوا كالورد، وكلهم
قُتِلوا على الهوية، لأن قاتليهم ظنوا أنهم ينتصرون لدينهم ويتقربون إلى
الله، ولأن أغلب القتلة لديهم دائما أسباب للقتل تبدو وجيهة، خصوصا أولئك
الذين يقتلون نيابة عن الله.
أعلم أن كثيرا من الذين سيروننى وأنا أجرى سيشيحون بنظرهم عنى وسيصبون علىّ اللعنات لأننى أُبَشِّر على
مصر لأن «إحنا مش كده»، وللأسف سيضطروننى لأن أبذل مزيدا من الجهد فى الأرشيف
لكى أعلق إلى جوار الصور قصاصات ورقية من صحف لبنان كانت تتحدث قبل اندلاع
الحرب الطائفية عن «لبنان بلد التعايش بين الطوائف وجنة الله فى الكون»،
سأفعل لعلى أذكرهم بأن نيل الأمانى ليس بالتمنى، وأن النجاة من السقوط فى
الهاوية تكون ببساطة باتخاذ طريق آخر غير الطريق المتجه إليها «دايركت»، لن
ننجو من الهاوية ونحن نجرى نحوها بكل إصرار يُغَذيه يقينٌ غبىّ بأن الله
سيلطف بنا، لأنه كما نعتقد زوراً، يضعنا فى منزلة أخرى دوناً عن كل عبيده
الذين اختصهم بسننه وقوانينه.
أعلم
أيضا أن كثيرا من الذين سيروننى وأنا أجرى فى الشوارع بصورى وقصاصاتى،
سيستوقفوننى لكى يقولوا لى «أصلك مش فاهم.. الغلطة بدأت إمتى.. طب إنت
عاجبك كده.. طب يرضيك اللى قاله فلان.. طب يصح إننا نسكت على علان»، وللأسف
لا أدرى إذا كنت سأجد من يساعدنى على إيجاد تسجيلات صوتية ومرئية يتحدث
فيها فرقاء الفتنة فى لبنان قبل اندلاعها، لنكتشف أن كل فريق كانت لديه
وجهة نظر تبدو له صائبة ومنطقية وواقعية وتستحق الدفاع عنها حتى الموت،
والشهادة لله أن الجميع لم يقصروا أبدا فى ذلك، فحتى عندما عاد لبنان إلى
الحياة بعد سنوات من الموت، مازال فرقاء الفتنة مصممين على بقائه فى حالة
موت إكلينيكى أبدى، ومازال الجميع يعتقدون أنهم على حق، فهل نفيق قبل
الأوان وندرك أن الحق متعدد، أما الخراب فليس له سوى طريق واحد يُشترط على
كل من يسير فيه أن يعتقد أنه على حق.
قبل
اندلاع الحرب الأهلية فى لبنان مباشرة ظهر على الساحة الإعلامية تعبير
«اليد الثالثة» للإشارة إلى حوادث غامضة كانت سبباً فى تأجيج نيران الفتنة،
وعندما وقعت حوادث فتنة طائفية غامضة الملابسات فى ثمانينيات القرن الماضى
استخدم أكثر من كاتب ذلك التعبير اللبنانى فى محاولة للفت الأنظار إلى
خطورة ما يحدث، لعل الدولة تنتبه وتفيق من غفلتها. والآن وبعد كل ما جرى فى
«مجارى» الفتنة الطائفية لسنين طويلة قد يبدو لك أنه من العبث أن نشير إلى
«يد ثالثة»، فأيدينا كمسلمين ومسيحيين تقوم بالواجب وزيادة من أجل تخريب
الوطن.
ومع
ذلك سأظل مؤمنا بنظرية المؤامرة، ليس عن هوس عقلى أو خلل نفسى، بل عن
إدراك ويقين تسنده المعلومات والوثائق بأن عدونا الإسرائيلى سيكون مختلا
عقليا لو توقف عن التآمر ضدنا، وهو ليس كذلك أبدا، فهو عدو عاقل يدرك أن
قوته لن تستمر إلا إذا ظللنا ضعفاء وغارقين فى التطرف والفتنة والتعصب،
يعرف ذلك جيدا لأنه هو ذاته يعانى داخليا من الهوس الدينى والتطرف العقائدى
والتوترات الإثنية لكنه استطاع أن يخفف من آثار ذلك على مصيره ومستقبله
بالديمقراطية الحقيقية لا الشكلية والتقدم العلمى والتكنولوجيا، والاثنان
كفلا له البقاء برغم كونه كيانا استيطانيا غاصبا يفتقر إلى الشرعية اللازمة
لإبقاء دولة على قيد الحياة، بينما نحن بكل تاريخنا وحضارتنا وتراثنا
مهددون بالفناء فقط فى اعتقادى لأننا شغّلنا الديمقراطية فى خدمة بيوت
الاستبداد، ووظّفنا العلم بعقد عمل دائم لدى الجهلة.
حتى
لو لم تكن مؤمنا بنظرية المؤامرة، ستجد أن الإيمان بها مريح جدا، فما أسهل
أن ترمى على عدوك مسؤولية أشياء لا تفهم لماذا تحدث، ولا لماذا ينساق
وراءها الناس من حولك بكل هذه السذاجة، لكن مَن قال لك يا عزيزى إن
المؤامرة لا تلعب على مواجع جاهزة وتقوم بتقليبها وتوظيفها وتصعيدها
وتضخيمها؟.
من
قال لك إننى أقول لك كل ما أقوله لكى أدعوك لأن نكتفى بلعن إسرائيل،
ونتوقف عن لعن أنفسنا، الحقيقة أننى أتمنى أن نلعن أنفسنا فى الفترات التى
نرتاح فيها من لعن إسرائيل، لأننا أصبحنا نحقق لإسرائيل ما ترغب فيه دون
حتى أن تقوم أجهزة مخابراتها بتقديم طلب إلى وزارة ماليتها لرفع مخصصات
إثارة الفتنة فى
مصر التى تعلم إسرائيل أنها ستظل عدوها الأول والأخطر دائما وأبدا، هكذا تؤمن
إسرائيل فهى تعتقد أنها ستحيا إلى الأبد، وتخطط من أجل ذلك، وتعمل فى كل
لحظة من أجل حياة أبدية لها، لأنها تدرك أن الأمم التى انقرضت هى التى ظنت
أن بقاءها على قيد الحياة أمر مفروغ منه ولا يستحق العمل والكفاح والتغيير.
لن أكل ولن أمل أبدا من دعوة كل من أعرف إلى قراءة كتاب مهم ومظلوم للكاتب الكبير محمود عوض رحمه الله اسمه (وعليكم السلام..
مصر وإسرائيل والعرب الجذور والمستقبل) صدر سنة 1986 عن دار المستقبل العربى،
وللأسف لم تتم إعادة طبعه، رغم أنه لم يكن كتابا إنشائيا أو خطابيا، بل كان
قراءة تحليلية فى كل ما وقع تحت يدى مؤلفه فى ذلك الوقت من وثائق ومؤلفات
أمريكية لأناس كانوا شركاء فى صنع القرار فى المنطقة فى تلك المرحلة وعلى
رأسهم وزير الخارجية الأمريكى وصديق إسرائيل الأول هنرى كيسنجر.
عندما
تقرأ هذا الكتاب اليوم وبعد أكثر من ربع قرن على نشره، ستجد أن ما حدده من
ملامح مستقبلية للسياسة الإسرائيلية فى المنطقة هو الذى فعلته إسرائيل
بالملّى وما زالت تفعله حتى هذه اللحظة، لا يتسع المقام للتذكير بهذه
الملامح، لكننى أعتقد على حد قراءاتى المتواضعة أن الكتاب كان رائدا فى رصد
وتحليل دور إسرائيل فى ملف الفتنة الطائفية أو ما سماه اللعب بورقة
الأقليات فى أكثر من دولة عربية من الجزائر إلى لبنان إلى
مصر، مع تحفظى على وصف المسيحيين ال
مصريين بالأقليات لأسباب مبدئية لا علاقة لها بدقة التوصيف العلمى.
يحدد محمود عوض، رحمه الله، عام 1972 بوصفه تاريخ البدء لاستخدام إسرائيل سلاح الفتنة الطائفية فى ضرب ال
مصريين، «ففى الوقت الذى كانت فيه
مصر تشهد مظاهرات طلابية تضغط من أجل شن الحرب التى طال الاستعداد لها لتحرير
سيناء، فجأة وخلال وقت وجيز عقب المظاهرات استقبلت صناديق البريد المنزلية
لعدد معروف من الشخصيات العامة منشورات تطالب لأول مرة بحقوق سياسية
للأقلية القبطية فى
مصر التى تتعرض لاضطهاد من الأغلبية المسلمة».
كان
كل ما تتحدث عنه المنشورات أمراً حقيقياً وواقعياً ومشروعاً، لكن توقيت
وطريقة ظهورها كان أمرا مثيرا للاهتمام، وطبقا لما يقوله محمود عوض فإن
الأجهزة المعنية فى
مصر «لاحظت أن المنشورات مطبوعة بحروف وعلى ورق ليس من الأنواع التى تستخدم فى
مصر أو تنشر فى مطابعها، وبالاستمرار فى البحث تبين أنها مطبوعة فى إسرائيل، وقد سربها إلى
مصر عملاء لجهاز الموساد، وهو الأمر الذى سجلته لجنة تقصى الحقائق التى شكلها
مجلس الشعب فى حينها. ولأن الأمر لم يعالج بحسم وحزم فى تلك المرة، ولأنه
لم تتم التوعية بدرجة كافية بدور المخابرات الإسرائيلية، فإن هذه الفتنة
الطائفية سرعان ما عادت تتكرر بعدها بفترة وجيزة، خاصة بعد أن أصبحت الرغبة
فى تمزيق
مصر من الداخل أكثر إلحاحا».
وقبل
أن يقفز أحد ليستنتج أننى أعتبر أى حديث عن مطالب سياسية للأقباط أو شكوى
من التمييز الذى يتعرضون له سياسيا وإعلاميا أمراً بالضرورة مدفوع الأجر من
الموساد، أؤكد ثانية أن أهم خطوة فى أى منهج تآمرى تقوم به أجهزة تدار
بأسلوب علمى هى أن يستند إلى مشاكل واقعية وحجج منطقية قابلة لحشد أنصار
لها، ولعلى هنا أختلف مع أستاذنا محمود عوض، رحمه الله، كما فعلت فى حياته،
بأن أؤكد أن مواجهة الأمر لم يكن ينبغى فقط أن تتم بالحسم والتوعية بدور
إسرائيل، بقدر ما كان ينبغى أن تتم بالتأكيد على مدنية الدولة ال
مصرية وضمان الحقوق المتساوية لكل ال
مصريين بغض النظر عن ديانتهم ومحاربة كل الأفكار المتطرفة التى ظلت دائما كامنة فى البنيان ال
مصرى
منذ مئات السنين، ولم تتح الفرصة ولا لمرة فى مواجهتها بشكل جذرى من خلال
مناهج التعليم ووسائل الإعلام بعيدا عن الطبطبة وتبويس اللحى، وكل ذلك لم
يحدث للأسف بل حدث العكس تماما كما تعلم. ونكمل فى الغد بإذن الله إذا عشنا
وكان لنا نشر