الأيام العشر من ذي الحجَّة 1
ملخص الخطبة
1- الله يصطفى ما يشاء ويختار من خلقه.
2- بركة الطاعة وفوائدها.
3- فضائل عشر ذي الحجَّة.
4- فضل يوم عرفة.
5- فضل يوم النَّحر.
6- أعمال يُندَب لها في عَشْر ذي الحجَّة.
الخطبة الأولى
أما بعد:
فيا أيها المسلمون، اتقوا الله الذي يخلق ما يشاء ويختار، خلق السماوات واختار منها السابعة، وخلق الجنَّات واختار منها الفردوس، وخلق الملائكة واختار منهم جبريل وميكائيل وإسرافيل، وخلق البشر واختار منهم المؤمنين، واختار من المؤمنين الأنبياء، واختار من الأنبياء الرسل، واختار من الرسل أولي العزم، واختار من أولي العزم الخليلين، واختار من الخليلين محمَّدًا - صلَّى الله عليه وسلَّم وعليهم أجمعين - وخلق الأرض واختار منها مكة، وخلق الأيام واختار من أشهرها شهر رمضان، ومن أيامها يوم الجمعة، ومن لياليها ليلة القدر، ومن ساعاتها ساعة الجمعة، ومن عَشْرها عَشْر ذي الحجَّة.
والمسلم يعيش مباركًا في العمل وفي الزمن، وأعظم البركة في العمل الطاعةُ؛ إذ هي بركة على أهلها كما يقول تعالى: {مَن جَاء بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا} [الأنعام: 160]، وكما يقول صلَّى الله عليه وسلَّم: ((إن الله كتب الحسنات والسيئات، ثم بيَّن ذلك، فمَنْ همَّ بحسنةٍ فلم يعملها كتبها الله عنده حسنةً كاملةً، ومَنْ همَّ بحسنةٍ فعملها كتبها الله عنده عشر حسنات، إلى سبعمائة ضعف، إلى أضعاف كثيرة، ومَنْ همَّ بسيئة فلم يعلمها كتبها الله عنده حسنةً كاملةً، ومَنْ همَّ بسيئةٍ فعملها كتبها الله سيئةً واحدةً، ولا يهلك على الله إلا هالك)).
وهذا يدلُّ على أنَّ الطاعة بركةٌ في القَوْل؛ إذ الكلمة الواحدة من الطاعة بعشر حسنات؛ يكتب الله بها رضوانه، فيحفظ بها عبده حتى يُدخله الجنة، ويرضى عليه في الجنة؛ فلا يسخط عليه أبدًا.
والطاعة بركةٌ في العمل؛ إذ الصلاة بعشر صلوات كما في الحديث القدسي: ((أمضيتُ فريضتي، وخفَّفْتُ عن عبادي))؛ فهي خمسٌ في الفعل وخمسون في الأجر والثواب.
وصوم رمضان بعشرة أشهر؛ كما في الحديث: ((رمضان بعشرة أشهر، وستُّ شوال بشهرَيْن))، ((والصدقة بسبعمائة ضِعف))، ((والحج المبرور ليس له جزاءٌ إلا الجنة)).
والطاعة طُهْرَةٌ من الذنوب؛ فالصلاة طُهْرَةٌ من الذنوب، كما في الحديث: ((مَثَل الصَّلوات الخمس كمثل نهر غمر على باب أحدكم، يغتسل منه خمس مرات في اليوم والليلة، هل يبقى عليه من الدَّرَن شيءٌ؟!)).
والصوم طُهْرَةٌ من الآثام، كما في الحديث: ((جاءني جبريل؛ فقال: مَنْ أدرك رمضان فلم يُغْفَر له أبعده الله، قل: آمين))؛ فقلتُ: آمين.
ومَنْ صامه وقامه وقام ليلة القدر إيمانًا واحتسابًا؛ غُفر له ما تقدَّم من ذنبه. و: ((الصدقة تطفئ الخطيئة كما يطفئ الماء النار))، و: ((مَنْ حج فلم يرفث ولم يفسق؛ رجع من ذنوبه كيوم ولدته أمَّه)).
والطاعة بركةٌ في التعامل؛ إذ بالتعامل الحسن يدرك الإنسان درجة الصائم القائم، ويجاور الرسول - صلَّى الله عليه وسلَّم - ويحظى ببيتٍ في أعلى الجنة، ويدخل الجنة، ويكمل إيمانه، ويثقل ميزانه.
وأعظم الزمن بركةً: عَشْر ذي الحجَّة؛ إذ لها مكانةٌ عظيمةٌ عند الله تعالى، تدلُّ على محبَّته لها وتعظيمه لها؛ فهي عَشْرٌ مباركاتٌ كثيرةُ الحسنات، قليلة السيِّئات، عالية الدَّرجات، متنوِّعة الطَّاعات.
فمن فضائلها: أنَّ الله تعالى أقسم بها فقال: {وَلَيالٍ عَشْرٍ} [الفجر: 2]، ولا يقسم تعالى إلا بعظيم، ومما يدلُّ على ذلك: أن الله لا يقسم إلا بأعظم المخلوقات، كالسماوات والأرض والشمس والقمر والنجوم والرياح، ولا يقسم إلا بأعظم الأزمان، كالفجر والعصر والضحى والليل والنهار والعشر، ولا يقسم إلا بأعظم الأمكنة، كالقسم بمكة، وله أن يقسم من خلقه بما يشاء، ولا يجوز لخلقه أن يقسموا إلا به، فالقَسَم بها يدلُّ على عظمتها ورفعة مكانتها وتعظيم الله لها.
ومن فضائلها: أنَّ الله تعالى قرنها بأفضل الأوقات، والقرين بالمقارَن يقتدي؛ فقد قرنها بالفجر وبالشفع والوتر وبالليل.
أما اقترانها بالفجر: فلأنه الذي بحلوله تعود الحياة إلى الأبدان بعد الموت، وتعود الأنوار بعد الظُّلْمَة، والحركة بعد السكون، والقوَّة بعد الضعف، وتجتمع فيه الملائكة، وهو أقرب الأوقات إلى النزول الإلهي في الثُّلُث الأخير من الليل، وبه يُعرف أهل الإيمان من أهل النفاق.
وقرنها بالشفع والوتر: لأنهما العددان المكوِّنان للمخلوقات، فما من مخلوق إلا وهو شفعٌ أو وترٌ، وحتى العَشْر فيها شفعٌ، وهو النحر، وفيها وترٌ، وهو عرفة.
وقرنها بالليل لفضله؛ فقد قُدِّم على النهار، وذُكِرَ في القرآن أكثر من النهار، إذ ذُكِرَ اثنتين وسبعين مرَّة، والنهار سبعًا وخمسين مرَّة، وهو أفضل وقتٍ لنَفْل الصَّلاة، وهو أقرب إلى الإخلاص؛ لأنه زمن خُلْوَةٍ وانفراد، وهو أقرب إلى مراقبة الربِّ تعالى؛ إذ لا يراه ولا يسمعه ولا يعلم بحاله إلا الله، وهو أقرب إلى إجابة الدُّعاء وإلى إعطاء السؤال ومغفرة الذنوب؛ إذ يقول الربُّ في آخِره: ((هل من داعٍ فأجيبه، وهل من سائلٍ فأعطيه، وهل من مستغفرٍ فأغفر له؟)).
مُيِّز به أهل الجنة في قوله تعالى: {كَانُواْ قَلِيلًا مّن اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ} [الذاريات: 17]، وفي قوله: {تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ} [السجدة: 16]، وميِّز به عباد الرحمن في قوله: {وَعِبَادُ الرَّحْمَانِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الأرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الجَاهِلُونَ قَالُواْ سَلاَمًا * وَالَّذِينَ يِبِيتُونَ لِرَبّهِمْ سُجَّدًا وَقِيَامًا} [الفرقان: 63-64]، قال بعض السلف: "لولا الليل ما أحببتُ العَيْش أبدًا"، وقال آخَر: "لم يبقَ من لذَّة الدُّنيا إلا قيام الليل وصلاة الجماعة وصُحْبَة الصَّالحين".
ومن فضائلها: أنَّ الله تعالى أكمل فيها الدِّين؛ إذ تجتمع فيها العبادات كلِّها، وبكمال الدِّين يَكْمُل أهله، ويَكْمُل عمله، ويَكْمُل أجره، ويعيشون الحياة الكاملة التي يجدون فيها الوقاية من السيئات، والتلذُّذ بالطَّاعات، ومحبَّة المخلوقات.
وبكمال الدِّين تنتصر السنَّة، وتنهزم البدعة، ويقوى الإيمان، ويموت النفاق.
وبكمال الدين ينتصر الإنسان على نفسه الأمَّارة بالسوء؛ لتكون نفسًا مطمئنة تعبد الله كما أراد، وتقتدي بالأنبياء، وتصاحب الصالحين، وتتخلَّق بالأخلاق الحسنة.
وبكمال الدين ينتصر الإنسان على شيطانه الذي شطَّ ومال به عن الصِّراط المستقيم، وينتصر على الهوى والشهوات.
وقد كَمُلَ الدِّين حتى تركنا الرسول - صلَّى الله عليه وسلَّم - على المحجَّة البيضاء؛ ليلها كنهارها، لا يزيغ عنها إلا هالكٌ شقيٌّ. وقد حسدنا اليهود على هذا الكمال؛ قال حَبْرٌ من أحبار اليهود لعمر - رضيَ الله عنه -: آيةٌ في كتابكم لو نزلت علينا معشر اليهود؛ اتَّخذنا ذلك اليوم الذي نزلت فيه عيدًا: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإسْلاَمَ دِينًا} [المائدة: 3]. قال عمر: إني أعلم متى نزلت، وأين نزلت. نزلت يوم عرفة في يوم جمعة.
وكمال الدِّين يدلُّ على كمال الأمَّة وخيريَّتها.
ومن فضائلها: أن الله أتمَّ فيها النعمة؛ إذ تنعم الأرواح بشتَّى أنواع الطاعات القَوْليَّة والفعليَّة والتعامليَّة.
ومن تمام النِّعمة: أن الله فتح قلوب العباد للإسلام، فدخل الناس في دين الله أفواجًا؛ إذ كان عددهم عند تمام النعمة أكثر من مائة ألف.
ومن تمام النعمة: أن الله أظهر الإسلام على جميع الأديان؛ إذ كان في الجزيرة أديانٌ متنوِّعةٌ؛ منها: اليهودية، والنصرانية، والمجوسية، والوثنية، والنفاق، فأُبيدت بالإسلام، وظهر عليها الإسلام؛ قال تعالى: {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا} [الفتح: 28].
ومن تمام النِّعمة: منع الكفار من دخول الحَرَم، واختصاص المسلمين بذلك، فتوحَّدت صفوف المسلمين حتى أصبحوا كالجسد الواحد، ووحَّدوا معبودهم، وتوحَّد دينهم، وتوحَّدت كلمتهم، وتوحَّد طريقهم، ويا لها من نعمة عظيمة أن ترى أهل الإيمان ظاهرين وأهل الكفر مهزومين.
ومن فضائلها: أن العبادات تجتمع فيها ولا تجتمع في غيرها، فهي أيام الكمال، ففيها الصلوات كما في غيرها، وفيها الصَّدقة لمَنْ حال عليه الحَوْل فيها، وفيها الصوم لمَنْ أراد التطوع أو لم يجد الهَدْي، وفيها الحجُّ إلى البيت الحرام ولا يكون في غيرها، وفيها الذِّكْر والتَّلْبية والدعاء الذي تدلُّ على التوحيد، واجتماع العبادات فيها شرفٌ لها لا يضاهيها فيه غيرها، ولا يساويها سواها.
ومن فضائلها: أنها أفضل أيام الدُّنيا على الإطلاق، دقائقها وساعاتها وأيامها وأسبوعها، فهي أحبُّ الأيام إلى الله تعالى، والعمل الصالح فيها أحبُّ إلى الله تعالى؛ فهي موسم للرِّبح، وهي طريق للنَّجاة، وهي ميدانُ السَّبْق إلى الخيرات؛ لقوله - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((ما من أيامٍ العمل الصالح فيها أحبُّ إلى الله تعالى من هذه الأيام))؛ يعني أيام العَشْر. قالوا: يا رسول الله، ولا الجهاد في سبيل الله؟ قال: ((ولا الجهاد في سبيل الله، إلا رجلٌ خرج بنفسه وماله، فلم يرجع من ذلك بشيء))، وهذا يدل على أن العمل في أيام العشر أفضل من الجهاد بالنفس، وأفضل من الجهاد بالمال، وأفضل من الجهاد بهما والعودة بهما أو بأحدهما؛ لأنه لا يَفْضُل العمل فيها إلا مَنْ خرج بنفسه وماله، ولم يرجع لا بالنفس ولا بالمال.
وقد روي عن أنس بن مالك – رضيَ الله عنه - أنه قال: "كان يُقال في أيام العَشْر: بكل يوم ألف يوم، ويوم عرفة بعشرة آلاف يوم"؛ يعني: في الفضل.
وروي عن الأوزاعي قال: "بلغني أنَّ العمل في يوم من أيام العَشْر كقدر غزوةٍ في سبيل الله، يُصام نهارها ويُحرَس ليلها؛ إلاَّ أنْ يختصَّ امرؤٌ بالشَّهادة.
ومن فضائلها: أن فيها يوم عرفة، وهو اليوم التاسع من ذي الحجَّة، وهو يومٌ معروفٌ بالفضل وكثرة الأجر وغفران الذنب؛ فهو يومٌ مجيدٌ، يعرف أهله بالتوحيد؛ إذ يقولون: لا إله إلا الله، وقد قال صلَّى الله عليه وسلَّم: ((وخير ما قلتُ أنا والنبيُّون قبلي: لا إله إلا الله))، ويعرف الإنسان ضعف نفسه؛ إذ يُكْثِر من الدُّعاء، ويلحُّ على الله في الدُّعاء، وفي الحديث: ((خير الدُّعاء دعاء يوم عرفة))، ويعرف إخوانه المسلمين الذين اجتمعوا من كلِّ مكانٍ في صعيدٍ واحد، ويعرف عدوَّه الذي ما رُئِيَ أصغر ولا أحقر منه في مثل يوم عرفة، ويعرف كثرة مغفرة الله في هذا اليوم؛ لكثرة أسباب المغفرة، من توحيد الله، ودعائه، وحفظ جوارحه، وصيامه لغير الحاجِّ.
وهو يوم الحجِّ الأعظم؛ قال صلى الله عليه وسلم: ((الحج عرفة))، وصومه تطوُّعًا يكفِّر ذنوب سنتين: سنة ماضية وسنة مقبِلة، وما علمتُ هذا الفضل لغيره؛ فكأنه حفظ للماضي والمستقبل.
ومن فضائلها: أنَّ فيها يوم النَّحر، وهو اليوم العاشر من ذي الحجَّة، وهو أفضل الأيام كما في الحديث: ((أفضل الأيام يوم النَّحْر))، وفيه معظم أعمال النُّسُك: من رمي الجمرة، وحَلْق الرَّأس، وذبح الهَدْي، والطَّواف، والسَّعي، وصلاة العيد، وذبح الأُضحية، واجتماع المسلمين في صلاة العيد، وتهنئة بعضهم بعضًا.