إن زيارة القبور، والوقوف عليها لم تكن قبل أن
ينظمها الدين ويهذبها سوى استجابة لداعي الحزن على فراق الأقارب والخلان
الذي هو أحد غرائز البشر فزيارة القبور والبكاء عندها معروفة عند سائر
الأمم والشعوب البشرية قديما وحديثا، غير أنها تتطور أحيانا إلى أن تصبح
ذات طابع ديني بحت فيقصد القبر لا بدافع الحزن والشوق إلى صاحبه والحنين
إليه، ولكن بقصد التقرب إليه لما يعتقد من صلاحه، وطلب الحاجة عنده لما له
عند ذي السلطان الغيبي الذي يشعر عامة البشر بالافتقار إليه من مكانة وجاه،
فيتوسل إليه بالمقبور المظنون الصلاح، وقد يتحول هذا التوسل والاستشفاع
بصاحب القبر إلى عبادة محضة فيدعى صاحب القبر مباشرة وتذبح له الذبائح،
وتقرب إليه كثير من القرابين. وما قصة التنزيل الحكيم
من عبادة قوم نوح لود وسواع، ويغوث ويعوق ونسر كاف في الاستدلال على صحة ما
قلناه وما هو مشاهد اليوم من عبادة النصارى للصليب وعبادة بعض المسلمين
للقبور والأضرحة بالتوسل والاستشفاع بأصحابها، كدعائهم، والاستغاثة بهم
وذبح الذبائح لهم، والحلف بأسمائهم وما إلى ذلك من صرف العبادات الكثيرة
إليهم يزيد الأمر جلاءا وظهورا. ومن هذا الذي تقدم، نعرف السر في نهي
الرسول صلى الله عليه وسلم عن زيارة القبور في أول الأمر، وهو خشية فتنة
الشرك لهذه الأمة- ولكن لما كان قدر الله نافذا- وليتحقق خبر الصادق
المصدوق صلى الله عليه وسلم:
[وحدهم المديرون لديهم صلاحيات معاينة هذه الصورة]
لتتبعن سنن من قبلكم شبرا بشبر، وذراعا بذراع
[وحدهم المديرون لديهم صلاحيات معاينة هذه الصورة]الحديث... أباح عليه الصلاة والسلام زيارة القبور التي نهى عنها، أباحها
للرجال وكرهها للنساء لأن الرجال أكمل عقولا من النساء وأقوى إرادة منهن.
ووقع ما خافه رسول الله صلى الله عليه وسلم
وتخوف منه فظهرت فتنة الشرك في الأمة فأقيمت للقبور الحفلات الرسمية
السنوية وهي أشبه شيء بأعياد الوثنيين التي يقيمونها لآلهتهم، وذبح لها
وباسمها قطعان الأبقار والأغنام، وجعلت لها أنصبة كاملة من الحرث والأنعام
ونذرت لها النذور، ونسبت إليها البنات والبنون، ونقل إليها للاستشفاء
بجاهها أصحاب الأمراض والعاهات كالجنون.
هذا وأما تهذيب الدين وتنظيمه لهذه العادة
البشرية فهو بما جعله كحكمة وسر لها تؤتى من أجله، فقد جعلها وسيلة لذكر
الموت، وتذكر الآخرة، وهما من عوامل تهذيب الشعور البشري، وترقية فطرة
الإنسان وطبعه وتزكية نفسه، وتطييب روحه، كما جعلها وسيلة لنفع متبادل بين
الحي والميت، فالميت قد تصيبه دعوة صالحة يرفع بها درجات، أو
يخفف عنه بها العذاب بضع سنوات، والحي قد يكتسب بما قام به من دعاء
واستغفار وترحم جزاء العاملين وثواب المحسنين، مع ما يرجع به من المقبرة من
تغير في نظره إلى الحياة الفانية، ومن استعداده للتزود إلى الحياة
الباقية، تلك الحياة التي قوي شعوره بحقيقتها، وقصد عزمه على الرحيل إليها.
وفي نفس الوقت أشبع غريزة الحزن في نفسه بوقوفه على قبر قريبه أو خليله،
وكان بذلك قضى حجا وحاجة كما يقولون.
وهذا أخيرا ملخص الحكمة في زيارة القبور: