تذكرة بتعلق القلوب بالله

موضوع: تذكرة بتعلق القلوب بالله 2012-11-30, 15:29

إن
الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات
أعمالنا من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله
إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده رسوله )يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ[، )يَا
أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ
وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيرًا
وَنِسَاء وَاتَّقُواْ اللّهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ
إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا[، )يَا
أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا
سَدِيدًا*يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ
وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا[ أما بعدُ فإن أصدق الحديث كلام الله، وأحسن الهدي هدي محمد e، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.

أما
بعد؛ أيها الأخوة الكرام! إن المتأمل لمواقف نبي الله وخليله إبراهيم عليه
السلام يجد أنه كان يرد الأمر إلى ربه في كل شيء، فهو الذي كان يتدبر
ويتأمل في الكون من حوله، قال تعالى: {وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ
مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ
الْمُوقِنِينَ*فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَبًا قَالَ
هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لا أُحِبُّ الآفِلِينَ*فَلَمَّا رَأَى
الْقَمَرَ بَازِغًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَئِن لَّمْ
يَهْدِنِي رَبِّي لأكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ*فَلَمَّا رَأَى
الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَذَا رَبِّي هَذَا أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ
قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِّمَّا تُشْرِكُونَ*إِنِّي وَجَّهْتُ
وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَاْ
مِنَ الْمُشْرِكِينَ} فوجه وجهه لربه، وأسلم نفسه لربه، واستسلم لربه جل
وعلا، إذ أنه يعلم أن الله تعالى بيده كلُّ شيء، وإليه يُرجع أمرُ كلِّ
شيء، {قُلِ
اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَن تَشَاء وَتَنزِعُ
الْمُلْكَ مِمَّن تَشَاء وَتُعِزُّ مَن تَشَاء وَتُذِلُّ مَن تَشَاء
بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَىَ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ*تُولِجُ اللَّيْلَ
فِي الْنَّهَارِ وَتُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَتُخْرِجُ الْحَيَّ
مِنَ الْمَيِّتِ وَتُخْرِجُ الَمَيَّتَ مِنَ الْحَيِّ وَتَرْزُقُ مَن
تَشَاء بِغَيْرِ حِسَابٍ} فلما علم وأيقن أنَّ كلَّ شيء بيد الله، وأن أمرَ
كلِّ شيء يرجع إلى الله سبحانه؛ أقرَّ واعترف وردَّ كلَّ شيء لربه فقال:
{الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ*وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي
وَيَسْقِينِ*وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ*وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ
يُحْيِينِ*وَالَّذِي أَطْمَعُ أَن يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ
الدِّينِ} فالخلق والهداية من الله، والطعام والسقاء من الله، والبلاء
والشفاء من الله، والإماتة والإحياء من الله، كلُّ شيءٍ بيد الله جل وعلا.

فيا
من ابتليت ببلية! إذا أردت زوالها، اعلم أنها من الله، فلن تزول إلا إذا
أذن الله، فمد يديك إليه، وتضرع بين يديه، وسل ربك أن يزيل ما بك من ضُرٍّ
وما بك من كرب وما بك من أذى، وأعلم أن أشد الناس بلاءً هم الأنبياء ثم
الصالحون ثم الأمثل فالأمثل، يبتلى الرجل على حسب دينه، فإن كان في دينه
صلابةٌ وقوةٌ؛ زيد له في البلاء، وإن كان في دينه رقةٌ خُفِّفَ عنه، ولا
يزال البلاء بالعبد حتى يمشي على وجه الأرض وليس عليه خطيئة، كما وردت بذلك
الأحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم.

ولنعلم
جميعًا أن أهل البلاء إذا صبروا واحتسبوا وسلَّموا أمرهم لربهم جل وعلا؛
فلهم أجر عظيم من ربهم الكريم سبحانه وتعالى، قال سبحانه: {وَبَشِّرِ
الصَّابِرِينَ*الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ قَالُواْ إِنَّا
لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ*أُوْلَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ
مِّن رَّبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ} ولنعلم أن
أجرَ الصابرين مضاعفٌ، كما قال تعالى: {أُولَئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ
مَرَّتَيْنِ بِمَا صَبَرُوا} وقال سبحانه: {أُوْلَئِكَ يُجْزَوْنَ
الْغُرْفَةَ بِمَا صَبَرُوا وَيُلَقَّوْنَ فِيهَا تَحِيَّةً وَسَلَامًا}
فهذه رسالة لأهل البلاء عامة، ليكن لهم في نبي الله أيوب عليه السلام مثلٌ
أعلى، فهو من أشد الناس بلاءً، بل هو من أعظم من ابتلي بالبلاء وبالمرض
خاصة، قال الله تعالى وهو يذكر موقفه في موضعين من كتابه: {وَاذْكُرْ
عَبْدَنَا أَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطَانُ
بِنُصْبٍ وَعَذَابٍ*ارْكُضْ بِرِجْلِكَ هَذَا مُغْتَسَلٌ بَارِدٌ
وَشَرَابٌ*وَوَهَبْنَا لَهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُم مَّعَهُمْ رَحْمَةً
مِّنَّا وَذِكْرَى لِأُوْلِي الْأَلْبَابِ*وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثًا
فَاضْرِب بِّهِ وَلَا تَحْنَثْ إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِرًا نِعْمَ
الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ} وقال سبحانه: {وَأَيُّوبَ
إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنتَ أَرْحَمُ
الرَّاحِمِينَ*فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِن ضُرٍّ
وَآتَيْنَاهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُم مَّعَهُمْ رَحْمَةً مِّنْ عِندِنَا
وَذِكْرَى لِلْعَابِدِينَ} لجأ إلى ربه، وتضرع إلى ربه سبحانه، فهو الذي
ابتُلِيَ بهذا الأذى الشديد، أيُّ بلاءٍ؟ أي بلاء نزل به؟ أي ضر مسه؟ لقد
ابتلاه الله عز وجل بمرض في جسده، بفقد لأولاده، بفقد لأمواله بعد أن كان
من أغنى الناس ومن أكثرهم ولدًا، ومن أصحِّهم عافية، وهو من؟ من أكرم الخلق
على ربه، ومن أحب الخلق لربه، وممن اصطفاهم رب العالمين جل وعلا، وجعله
نبيًّا من أنبياءه، مبلغًا عنه جلَّ وعلا، ومع ذلك يحدث له ما حدث، ويكون
به ما سمعتم؛ من بلاءٍ وأذى ومرض، حتى قيل أنه لم يبق من جسده مغرز إبرة
سليمًا سوى قلبه، فلقد كان قلبه حيًّا، ولقد كان لسانه ذاكرًا، فهذه نعمة
عظيمة، يعطيها الله عز وجل لأناس دون غيرهم، كما مرَّ أحدُ السلف على رجل
مريض مقعد ملازم للفراش، لا يستطيع أن يتحرك حركة واحدة، فسمعه يقول [الحمد
لله الذي عافاني مما ابتلى به كثيرًا من خلقه] فقال له: أيها الرجل! أراك
مريضًا ملازمًا للفراش، لا أرى شيئًا من جسدك يتحرك، وسمعتك تقول كذا وكذا،
قال: [الحمد لله الذي أعطاني لسانًا ذاكرًا، وقلبًا شاكرًا، وجسدًا على
البلاء صابرًا]

نبي
الله أيوب عليه السلام ابتلي بمرض، وابتلي بأذى، وابتلي بفقده لماله
وأولاده، طالت المدة، تركه الجليس، وتخلى عنه الأنيس، ولم يصبر أحد عليه
إلا زوجته التي كانت بجواره، فتحملت الأذى، وصبرت واحتسبت، لدرجة أن قومه
أخرجوهم من قريتهم، خشية أن يصيبهم من الأذى والمرض الذي أصابه، خرج من
القرية، ما معه إلا زوجه، بعد أن كانت مُعَزَّزةً مُكَرَّمةً مُنَعَّمةً،
كانت تعمل بالأجرة عند الناس، خادمة في البيوت، لتأخذ أجرتها، لتخدم زوجها،
ولترعى زوجها، ولتنفق على زوجها، ولتساعده في بلاءه، وفاءً منها لزوجها،
واعترافًا منها بالجميل والإحسان، الذي كان يحسن إليها به زوجها، في سابق
عهدها.

طال
الأمر، لدرجة أنه وصل ثماني عشرة سنة، وهو يصبر ويحتسب، ولو دعا ربه عز
وجل بدعوةٍ واحدة؛ لكشف عنه، سُئِل أن يدعو ربه ليكشف عنه فأبى إلا أن يصبر
ويحتسب، فلما طال الأمر، وعَظُم الكرب، واشتد الخطب، وتكلم الناس بكلامٍ
يجرحه، وترك الناس امرأته، فأبوا أن تعمل عند أحد منهم بالأجرة لما علموا
بحال زوجها خشية أن يصيبهم المرض، حينها؛ أرسل كلمات إلى السماء في جوف
الليل، بصوتِ مريضٍ، من قلبٍ منكسرٍ، ربِّ {أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ
وَأَنتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ} يارب من سواك يكشف الضر، يارب من سواك
يزيل الهم، يارب من سواك يكشف الكرب، يارب من سواك يدفع البلاء، يارب
{مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ} فاستجاب الله دعوته
{فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِن ضُرٍّ} أمره الله عز وجل
بأمر فيه الشفاء من رب العالمين، إنه أمر لا يخطر ببال، أمر عجيب، أمر
غريب، لكن مع قدرة الله فلا عجب ولا غرابة، إنه أمر إذا استجاب له نبي الله
أيوب؛ سيكون الشفاء من الله سبحانه، هذا الأمر ذكره الله في القرآن،
نتذاكره سويًّا بعد جلسة الاستراحة، أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم.

الخطبة الثانية

الحمد
لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن
محمدا عبده ورسوله، أرسله ربُّه رحمةً للعالمين، وهداية للناس أجمعين، ففتح
الله به قلوبًا غلفًا وأعينًا عميًا وآذانًا صُمّا، فاللهم صل وسلم وبارك
على عبدك ورسولك نبينا محمد، صاحب الوجه الأنور والجبين الأزهر، وعلى
أزواجه وذريته وآل بيته، وارض اللهم عن خلفائه الراشدين، وعن بقية الصحابة
أجمعين، وعن التابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.

أما بعد أيها الأخوة الكرام!

لما
لجأ نبي الله أيوب عليه السلام إلى ربه دون غيره، لم يلجأ لبشر، لم يلجأ
لنفر، لم يلجأ لعشيرة، لم يلجأ لأهل ولا لولد، ولم يستعن بمال ولا بأي شيء،
وإنما لجأ إلى ربه، رفع أكف الضراعة إلى ربه، فاستجاب الله دعاءه، فأمر أن
يضرب الأرض برجله – لو قيل لأي إنسان مريض: اضرب الأرض برجلك، ماذا سيقول؟
لن يمتثل، سيقول: وماذا يفعل ضرب الأرض؟ إذا ضربت الأرض من الآن للعام
القادم، ماذا سيحدث؟ من أين يأتي الشفاء؟ إن لم تكن هناك أدوية وعلاجات؛
فليس ثمَّ شفاء – أما أيوب عليه السلام مستسلم لأمر ربه جل وعلا – وليس
المعنى أن يبتعد الناس عن الأجهزة الحديث التي نراها بين أيدينا، بل هي من
الوسائل التي تؤدي إلى الشفاء، ولو تركها الإنسان ولم يأخذ بها قد يكون
آثمًا – ولكن قال الله له: {ارْكُضْ
بِرِجْلِكَ} فضرب الأرض برجله، فنبعت من الأرض عين، فأمره الله تعالى أن
يغتسل منها، فأذهب الله تعالى ما كان في جسده من بلاء، ثم أمره أن يضرب
الأرض في موضع آخر، فنبعت عين أخرى، فأمره أن يشرب منها، فأزال الله ما في
باطنها من بلاء، فكانت العافية من الله ظاهرًا وباطنًا، وذلك قول الله:
{ارْكُضْ بِرِجْلِكَ هَذَا مُغْتَسَلٌ بَارِدٌ وَشَرَابٌ}
وفي صحيح البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم
قال: ((بينا أيوب يغتسل عريانًا، فخرَّ عليه جراد من ذهب، فجعل يحتثي في
ثوبه، فناداه ربُّه: يا أيوب! ألم أكن أغنيتك عما ترى؟ قال: بلى وعزتك،
ولكن لا غنى لي عن بركتك)). هذه كلمات مختصرة جدًّا في موقف نبي الله أيوب
مع مرضه وبلاءه، فأنا أعلم أن الموقف لا يتحمل أن نسرد القصة كلَّها،
ولكنَّه موقفٌ للعظة والعبرة، ولنعلم جميعا أن كل شيء بيد الله جل وعلا،
وأن نلجأ لربنا سبحانه، متوكلين عليه، آخذين بالأسباب التي نراها أمامنا،
في دفع المرض وفي جلب الشفاء، من ربِّ الأرض والسماء.

[center]فكم لله من لطف خفيٍّ ... ... يَدِقُّ خفاه عن فهم الذكيِّ

وكم أمر تُساءُ به صباحا ... ... فتأتيك المسرة بالعشيِّ

وكم يسر أتى من بعد عسر ... ... تُفَرَّج كربة القلب الشجيِّ

إذا ضاقت بك الأحوال يوما ... ... فثق في الواحد الفرد العليِّ

إنه
يقين من القلب بأن كل شيء من رب العالمين .. أسأل الله تعالى أن يلبسني
وإياكم ثوب العافية، اللهم إنا نعوذ بك من زوال نعمتك، وتحول عافيتك،
وفجاءة نقمتك ....... الدعاء.
[/center]